بلال شلش: المقاومة جدوى مستمرّة | حوار

الباحث بلال شلش

 

في حوار مع فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، يتحدّث بلال شلش عن المقاومة بوصفها جدوى مستمرّة، ويقدّم قراءة تاريخيّة بديلة لتاريخ المقاومة المسلّحة في فلسطين، تناقض الادّعاء المهيمن بأنّ الفلسطينيّين لم يُقاتِلوا خلال حرب عام 1947-1948، وأنّ القليل منهم الّذي قاتل كان قتالهم بلا جدوى. ومن ثَمّ نحاول عقد مقارنة بين تاريخ المقاومة المسلّحة الفلسطينيّة ما قبل النكبة، وتجربة المقاومة المسلّحة في الحاضر، والمتمثّلة بالمقاومة الإسلاميّة في قطاع غزّة.

بلال شلش باحث ومؤرّخ فلسطينيّ، ومرشّح للدكتوراه في برنامج العلوم الاجتماعيّة في «جامعة بير زيت». صدر له من قبل كتابا «يافا دم على حجر: حامية يافا وفعلها العسكريّ» (2019)، و«داخل السور القديم: نصوص قاسم الريماوي عن الجهاد المقدّس» (2020) عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات»، كما شارك في كتابة العديد من المؤلّفات التاريخيّة، الّتي تناولت تاريخ المقاومة المسلّحة والصراع الفلسطينيّ الصهيونيّ.

 

فُسْحَة: أريد البدء بسؤال عن عمليّة التأريخ وموقع المؤرّخ من الصراع عمومًا؛ يمكن القول إنّه، وحتّى نهاية تسعينات القرن الماضي، لم تكن عمليّات التأريخ للنكبة أو الحدث الاستعماريّ عمليّات مركزيّة في سياق الفعل الفلسطينيّ الأصلانيّ، بل كانت عمليّات فرديّة، مشتّتة، ولم تشكّل الفعل المركزيّ لصناعة الهويّة الوطنيّة، على غرار أفعال أخرى كالمقاومة والعمل الحزبيّ. وحتّى عندما أصبح فعل التأريخ حاضرًا وبقوّة في المشهد الثقافيّ والفكريّ الفلسطينيّ، كان يركّز أكثر على التأريخ للنكبة، وعلى الفلسطينيّ ضحيّةً سلبيّة؛ ولكنّك الآن تؤرّخ للمقاومة المسلّحة الفلسطينيّة، وثمّة آخرون يؤرّخون للمقاومة أيضًا. هل يمكن القول إنّ ثمّة تحوّلًا طرأ على الثيمات التاريخيّة في عمل المؤرّخ، من التركيز على النكبة والفلسطينيّ كفاعل سلبيّ، إلى التركيز على المقاومة والفلسطينيّ كفاعل إيجابيّ؟

شلش: التحوّل لا يزال في بداياته، فعدد المؤرّخين لا يزال قليلًا، والمحاولات لا تزال فرديّة. أمّا عمليّات التأريخ لما أسمّيه حرب 1947-1948، فالمظلوميّة هي الّتي سيطرت على الرواية الفلسطينيّة، وذلك يعود إلى أسباب مختلفة، منها حقيقة أنّ الواقع المعيش كان واقع اللجوء والمخيّم الّذي شكّل مادّة للعمل الحزبيّ التثويريّ، بوصف اللاجئين هم الأثر المادّيّ المباشر للنكبة، إضافة إلى الأرض المفقودة. ما بعد عام 1948، كان ثمّة شعور مسيطر بالانتظار، وأنّ النكبة حدث غير نهائيّ، وبالتالي لم يكن اهتمام بالتأريخ للحدث، من جهة أخرى كانت استمراريّة نضاليّة لدى الأفراد الّذين عاشوا الحدث، وقاتلوا خلال الحرب للعودة ومحاولة تنظيم الذات مرّة أخرى. ثمّ أتت لحظة ظهور «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» لتستعيد صوت المقاتل الفلسطينيّ، وتراجع الشعور بالمظلوميّة مقابل صعود الشعور بالقدرة على تقرير المصير وصعود تيّار الكفاح المسلّح. في اللحظة الراهنة نعود للاهتمام بصوت المقاتل الفلسطينيّ في الحرب، والاعتناء بصورة البطولة مقابل صورة الضحيّة، لعدم التوازن في الرواية التاريخيّة؛ فثمّة عشرات الكتابات التاريخيّة الّتي تناولت التهجير والطرد، فلسطينيّة كانت أو غير فلسطينيّة، وكان تكثيفها بعد توقيع «اتّفاقيّة أوسلو» وطرح أسئلة حقّ العودة ومشروع الدولة الفلسطينيّة. لكنّ غياب التأريخ لصوت المقاتل الفلسطينيّ يرتبط أيضًا بغياب الأرشيف، وصعوبة إيجاد الوثائق التاريخيّة السيريّة أو الرسميّة، الّتي توثّق تاريخ المقاومة المسلّحة في فلسطين. اهتمامي الشخصيّ بصوت المقاتل الفلسطينيّ يرجع إلى توفّر مادّة أرشيفيّة بين يديّ، كان بعضها مغيّبًا في أراشيف العدوّ، أو أراشيف القمع، والجزء الآخر كان مخفيًّا محلّيًّا. فمثلًا، أرشيف قاسم الريماوي، ونصوصه عن الجهاد المقدّس، كانت محفوظة لدى «دار الحسيني»، ومخفيّة بسبب عدم رغبتهم في كشف هذه النصوص في حياة أصحابها. في المقابل، ثمّة أراشيف أُخْفِيَت لسوء التصنيف أو لقرارات لا تزال سارية بالحجب، مثل أوراق حامية حيفا الّتي لا تزال محجوبة في أراشيف العدوّ الصهيونيّ. وقد تمكّنت من كتابة كتاب «يافا دم على حجر»، بعد الكشف عن أجزاء من سجلّ حامية يافا، الّتي أظهرت فعاليّة المقاومة الّتي كانت حاضرة في المدينة خلال حرب عام 1948. وأيضًا، تدفع الأحداث الراهنة، وفعاليّة المقاومة في اللحظة الراهنة، إلى التساؤل عن جذور الفعل المقاوم، ومحاولة الإجابة عن السؤال البَدَهيّ الّذي يقول إن كنّا نقاتل اليوم، فلماذا لم نقاتل في الماضي؟ وتكون الإجابة أنّ المقاومة اليوم امتداد لمقاومة الماضي، وأنّ التجربة هي نفسها.

 

فُسْحَة: إذن، هي فاعليّة الفلسطينيّ في اللحظة الراهنة الّتي تدفع إلى البحث عن فاعليّة فلسطينيّة كانت موجودة أصلًا في الماضي؟

شلش: بالتأكيد؛ عندما تفكّر في الإنسان الفلسطينيّ الصامد في أرضه، رغم كلّ مشاريع التسوية الّتي فُرِضَتْ عليه، وأُفْشِلَتْ مرّة تلو الأخرى، وعندما تفكّر في كلّ التضحيات الّتي قُدِّمَتْ خلال سنوات الانتفاضة الثانية، لا بدّ من التساؤل: لماذا لم تُقَدَّم مثل هذه التضحيات في السابق؟ وعند محاولة قراءة هذه الأحداث في سياق استمراريّة تاريخيّة، تجد، مثلًا، أنّ الّذين كانوا قادة للفعل العسكريّ خلال الانتفاضة الثانية، كانوا ناشطين عاديّين في الانتفاضة الأولى الّتي هُزِمَتْ في نظر البعض؛ نتيجة لتوقيع «اتّفاقيّة أوسلو»؛ لكنّ حصاد الانتفاضة الأولى جاء متأخّرًا في الانتفاضة الثانية. الأمر نفسه ينطبق على ثورة 1936، الّتي مكّنت الفلسطينيّين من بناء تجربة عسكريّة جرت المراكمة عليها؛ لتمكّنهم من الصمود عسكريًّا خلال حرب 1947-1948، والحفاظ على بعض الأراضي مثل الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وهذه مسألة مهمّة؛ فالضفّة الغربيّة وقطاع غزّة لم يسقطا خلال الحرب، ليس بسبب موافقة بريطانيّة على ضمّها إلى المملكة الأردنيّة الهاشميّة، لكن لأنّ مجريات المعارك في النهاية قادت إلى حفظ هذه الأراضي. كان من الممكن أن تسقط القدس ورام الله خلال الحرب، لولا صمود يافا أمام العصابات الصهيونيّة لخمسة أشهر؛ ما اضطرّ قيادة «الهاغاناه» إلى استدعاء خمسة آلاف جنديّ إلى يافا، بدلًا من إرسالهم إلى منطقة أخرى. إذن، لو لم تستمرّ يافا في القتال خمسة أشهر لسقطت القدس، ورام الله، وبقيّة مدن فلسطين. وبالتالي، صحيح أنّ يافا سقطت، لكنّ حصاد صمود يافا كان عدم سقوط القدس؛ وهذه هي الجدوى الّتي لا يمكن إدراكها، إلّا من خلال قراءة التاريخ بطريقة مغايرة للموروث التاريخيّ السائد، والتغلّب على الشعور العامّ باللاجدوى.

 

فُسْحَة: كيف أثّر غياب هذه التفسيرات التاريخيّة لحرب 1947-1948، وحقيقة أنّ القتال الّذي اعتُبر بلا جدوى، كان له أثر حاسم في الإبقاء على القضيّة الفلسطينيّة، من خلال الحفاظ على بعض الأرض وبعض الناس، كيف أثّر في المسار التاريخيّ للثورة الفلسطينيّة؟

شلش: الواقع أنّ هذه التفسيرات لم تكن غائبة، وهذه المعرفة التاريخيّة لم تكن مغيّبة، بل كانت معيشة من خلال الناس الّذين قاتلوا خلال حرب عام 1947-1948، ولم يشعروا بالهزيمة، بل شعروا بضرورة الاستمراريّة، وهو ما أسمّيه ميراث الدم وميراث السلاح. هذا الميراث يمكن إيجاده عند شخصيّات مثل غسّان كنفاني، وجورج حبش، ووديع حدّاد، الّذين كان نموذجهم الأساسيّ في كتاباتهم وعملهم الثوريّ إبراهيم أبو ديّة، الّذي كان في بيروت، وكان يحكي لهم قصص الثورة الفلسطينيّة. صحيح أنّ هذه القصص لم تُكْتَب، لكنّها تحوّلت إلى ميراث مادّيّ بين أيديهم. صحيح أنّ هناك نقصًا في التوثيق، لكنّ الوعي بالثورة والوعي بمسارات العمل الثوريّ الفلسطينيّ، بداية من ثورة 1936 ووصولًا إلى حرب النكبة، كان حاضرًا في وعي يمثّل استمراريّة بين الأجيال الفلسطينيّة. والشيء نفسه ينطبق على انتقال هذا الوعي الثوريّ بين جيل الانتفاضة الأولى وجيل الانتفاضة الثانية.

 

فُسْحَة: عند عقْد مقارنة بين استمراريّة المقاومة المسلّحة في فلسطين اليوم، والمتمثّلة بتجربة المقاومة الإسلاميّة في قطاع غزّة، المستمرّة منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، وما بين المقاومة المسلّحة الفلسطينيّة ما قبل عام 1948؛ كيف نفهم غياب هذه الاستمراريّة عن بنية المقاومة آنذاك، وحضورها في اللحظة الراهنة؟

شلش: بل هي الحالة نفسها، الواقع أنّه لم يكن ثمّة انقطاع في العمل الثوريّ بين عامَي 1936 و1948، ولكنّنا دائمًا ما نفكّر في سنوات الإعداد كسنوات انقطاع...

 

فُسْحَة: هل استمرّت فصائل العمل المسلّح، الّتي كانت فاعلة عام 1936، بالعمل حتّى 1947؟

شلش: بالطبع، وفكرة الاستمراريّة تتمثّل في أنّ الّذين قاتلوا خلال ثورة 36 لم يفكّروا في الهزيمة بصفتها فشلًا، ربّما لم تحقّق الثورة أهدافها المتمثّلة بالاستقلال، لكنّ الثوّار استمرّوا بالتحضير لما سيأتي في ما بعد، ومثال ذلك عبد القادر الحسيني، الّذي تمكّن بناءً على تجربته العسكريّة في الثورة، من تأسيس تنظيم «الجهاد المقدّس» ما قبل النكبة، الّذي شكّل امتدادًا للتنظيمات الثوريّة الّتي كانت فاعلة عام 1936. النسق ذاته ينطبق على تجربة المقاومة الإسلاميّة اليوم، فذروة العمل العسكريّ لحركة «حَماس» كانت عام 1993، لكنّ التنظيم العسكريّ كان على وشك الاندثار عام 1998، حينما زُجَّ التنظيم بأكمله في السجون الإسرائيليّة وسجون «السلطة الفلسطينيّة»، وتجلّى ذلك حتّى في اعتقال أجهزة السلطة الأمنيّة لمحمّد الضيف. كان التنظيم على وشك الاندثار، لكنّ الفاعلين لم يفكّروا في السجن نهايةً للعمل الثوريّ، بل حوّلوا السجن نفسه إلى واحدة من أهمّ المحطّات التنظيميّة للتنظيم العسكريّ. نحن دائمًا ما نفكّر في لحظات السكون بصفتها لحظات انقطاع، لكنّها لحظات إعداد، ودائمًا ما نبحث عن الجدوى المباشرة والواضحة، لكنّ الجدوى قد تكون على بُعْدِ سنوات، وقد توجد حيث لا يفكّر فيها. النكبة مستمرّة، وثمّة استمراريّة للمقاومة؛ فتجربة غزّة اليوم امتداد لتجارب ثوريّة سابقة تتابعت، وصولًا إلى ثورة 1936. أجل، ثمّة تحوّلات أيديولوجيّة بين مرحلة وأخرى، لكنّ التجربة الثوريّة تظلّ تتوالد، وهي امتداد لما كان في السابق، وما سيكون لاحقًا من عمل ثوريّ سيكون امتدادًا للحظة الراهنة؛ وفي هذه التواصليّة يمكن رؤية الجدوى، من جدوى العمل الثوريّ لـ «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» وفصائلها، الّذي يمكن رؤيته اليوم في قطاع غزّة، إلى جدوى العمل الثوريّ عام 1948، الّذي كان حاضرًا في تجربة فصائل المنظّمة، هكذا وصولًا إلى الفعل الثوريّ الأوّل ضدّ البنية الاستعماريّة.

 

فُسْحَة: لقد عقدت مقارنة من قبل، بين ما سمّيته «لحظة الكرامة الأولى»، وهي «معركة الكرامة» عام 1968، وبين «لحظة الكرامة الثانية» المتمثّلة بـ «معركة سيف القدس» عام 2021؛ اللحظة الأولى شكّلت لحظة فارقة في استعادة صوت المقاتل، وصعود تيّار الكفاح المسلّح، بعدما أثبتت فصائل العمل الثوريّ قدرتها على الصمود أمام الجيش الصهيونيّ، لكن لاحقًا تتابعت الصدمات الّتي دحرت هذا التيّار مرّة أخرى. الآن، يبدو أنّ «لحظة الكرامة الثانية» تتلقّى صدمات مشابهة، من حملة الاعتقالات الأمنيّة الصهيونيّة في أراضي 48، إلى القمع الأمنيّ الوحشيّ من قِبَل أجهزة «السلطة الفلسطينيّة»، وأخيرًا سلوك منصور عبّاس (الإسلاميّة الجنوبيّة) السياسيّ الّذي شكّل شرخًا في أراضي 48؛ هل يمكن هذه الصدمات أن تشكّل ضغطًا على المقاومة، أو حتّى على التيّار الوطنيّ الداعم لخيار الكفاح المسلّح ضدّ البنية الاستعماريّة؟

شلش: في رأيي، هي كلّها صدمات إيجابيّة لصالح المقاومة؛ فقمع «السلطة الفلسطينيّة» يُعَدّ مؤشّرًا على اضطراب داخليّ بسبب الحالة الثوريّة في الضفّة الغربيّة. أمّا الاعتقالات في أراضي 48، ففي رأيي أنّ كلّ حملة اعتقالات موسّعة كان لها أثر إيجابيّ في التنظيم الذاتيّ داخل الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. صحيح أنّها تترك فراغًا تنظيميًّا، وتغيّب العناصر التنظيميّة الفاعلة، لكن أحيانًا يكون غياب التنظيم مفيدًا في لحظات التثوير الأولى. وفي أحيان أخرى يتحوّل السجن نفسه إلى محطّة تنظيم ذاتيّ مهمّة، تنشأ فيه علاقات شخصيّة، وفيه يكون الإعداد الفكريّ والنفسيّ للتنظيم الثوريّ. أمّا في ما يتعلّق بمنصور عبّاس، فهذه الخطوة ستدعم التيّار الفلسطينيّ، الّذي يدعو الناس إلى التفكير بعيدًا عن خيار الكنيست الّذي ثبت فشله مرّة بعد أخرى، لكن، حتّى جماعة منصور عبّاس أو أيّ جماعة أخرى، يمكن أن يتحوّلوا أيديولوجيًّا في يوم وليلة. فالهبّة الأخيرة في أراضي 48 فاجأت كثيرين، ومن بينهم فلسطينيّون لم يعتقدوا قطّ أنّ قراهم أو بلداتهم ستخرج للاحتجاج والتمرّد على السلطة الاستعماريّة، وذلك يعني أنّ حدث منصور عبّاس ليس نهائيًّا، ولا يشكّل صدمة بقدر ما يشكّل مادّة داعمة لخيار المقاومة ضدّ البنية الاستعماريّة.

 

 


أنس إبراهيم

 

 

كاتب وباحث. حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة من جامعة بير زيت. نشر العديد من المقالات في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة في الأدب والسينما والسياسة.